روحانية الصيام

  • تعليق
روحانية الصيام .. لفضيلة الشيخ محمد المحيسني

عام كامل مر.. خبت فيه الشحنة الروحانية لدى كثير منا.. بل ربما لدينا جميعاً، وضعفت قوة الصلة بيننا وبين الله..
ولا بد لنا من محطة نجدد فيها العهد، ونشحذ فيها العزم، ونتزود منها زاد العام، ونراجع فيها الخلل والتفريط...
ويطل علينا الشهر الكريم.. فنلتحق بمدرسة الصيام؛ لنستعيد ما فقدنا، ولنوثق الصلة في محاريب الابتهال، فتتجدد العلاقة الحميمة بيننا وبين ربنا جل وعلا
نستمد منه المدد، ونستجلب العطاء...
عند السحر لا يكون بين الدعاء وبين الله أي حجاب.. وفي ساعة الفطر يسمع الدعاء ويجاب..
وحينما يكون العبد سالكاً طريق القرب، فحري به إذا أقسم على الله أن يبره، فإذا أقدم على أمر: أن ينجح، وإذا استعان: أن يعان...

إن روحانية الصيام.. مرقاة إلى الربانية التي ننشدها، روحانية الهجوم والمطاردة، وعتاد الكفاح والمنازلة، تربية وتهذيب، واستلهام للتقوى والهداية.
وترفع على الهوى، وابتعاد عن مغريات الدنيا، وحرب على الشيطان..
وروحانية الصيام.. هي نور لا يكتفي بإضاءة الزوايا الضيقة، بل من شأنها الانتشار وتبديد الظلمات، وكشف الغموم والمهمات..
ويا لذة أهل النور وهم يبصرون الحجة الناصعة، ويطفئون الشبهة المنتفخة، وتلك لعمري هي روحانية المجاهد، وربانية الزاهد، وإقدام المواجه للباطل المغير للمنكر..
فلا هروب ولا انزواء، ولا انهزام في مواطن الابتلاء...
روحانية الصيام.. من شأنها أن تقود إلى التغيير، وأن تحدث التأثير، ولنا في السيرة زاد، ومن حركة الفتوح رصيد وعتاد
فحينما انتشرت الجموع وانداحت الصفوف، صنعت التغيير، وأحدثت التأثير، فكان الصائمون هم أصحاب الملاحم التي حطمت الأكاسرة
وزلزلت عروش القياصرة، وأضاءت مصابيح العلم ومنائره، وأخرجت الناس من الظلمات إلى النور...
وفي الشهر الكريم المبارك.. ليلة هي أعظم الليالي، نزل فيها القرآن على قلب رسول الله، وتنزلت فيها الملائكة والروح بأمر الله..
الليلة الموعودة المشهودة، حين يتم الاتصال بين أهل الأرض والملأ الأعلى في السماء.. ليلة يشرق فيها نور الله على عباده، ويتم فيها التقدير والتدبير، ولعظمتها المتناهية..
فإن الله تعالى قال عنها: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ))[القدر:2]..
فلا تفوتنكم هذه الليلة، ولا يغيبن عنكم فضلها وعظمتها..
فلنفهم هذه العظمة، ولنستشعرها من خلال الكتاب والسنة، دونما تعلق بالأساطير والأوهام التي شاعت حولها لدى بعض الجهلة والدجالين...
فها قد علمت أيها الصائم، فأسرع ولا تتأخر، وأقدم ولا تحجم، وضع نفسك في خانات الحساب
فإن كنت لا تزال في خانة الآحاد فلا تقنع بها أبداً، ولا تتريث طويلاً، ولكن اجعل منها محطة للوصول إلى خانة العشرات
ومرحى لو كنت ممن أسرع الخطى إلى خانة المئات فالألوف...
وفي روحانية الصيام.. نجد لفتة عجيبة، ذلك أنه يحرم علينا بالصيام ما هو حلال في الأصل، كالأكل.. والشرب.. وإتيان الأهل..
فيكون التسامي أعلى، ويكون الارتقاء أسمى، ويكون الارتباط بالخالق أوثق..
ذلك أن الابتعاد عن المحرم دواماً قد أصبح أمراً مسلماً به، وفي حكم الاعتياد
أما أن يكون الامتناع عما هو حلال من حيث الأصل، طاعة وانقياداً لأمر الله، وتقرباً إليه، فإنه يكون مرتبة أعلى من ذلك
ومكانة لا يدرك شأوها إلا من ذاق حلاوة الطاعة، وخاض تجربة التجرد لربه، فتقبل إرشاده وأطاعه...
وفي روحانية الصيام.. نتعلم التسليم لأمر الله، والاقتناع بحكمته..
فقد يظهر لنا أن من حكم الصيام إحساس الغني بما يعانيه الفقير، فما شأن الفقير بالصيام، ولماذا يفرض عليه؟
فنقول: كما أنك تقتنع بما يصفه الطبيب من الدواء دون أن تناقشه، وهو بشر يخطئ وينسى
فالأحرى أن تقتنع بما يرشد إليه رب الطبيب وخالقه، دونما تمحك أو تعنت...
أخي الكريم!
وأنت تسير في موكب الصائمين، حتماً ستجد من يناوئك، ومن يعوق سيرك.. شيطان رجيم، ونفس أمارة بالسوء، وهوى متبع، وإعجاب غير مستحب، وإعلام ضال..
حتماً ستجد من يعترض عليك، ومن يضع العوائق بين يديك، فلا تركن إلى الإعلام الفاسد، ولا تستمع إلى قارون الحاقد، ولا تكونن عبداً للدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة..
وإياك أن تكون دنيء الهمة.. وضيع النفس...
فلنبرم الصفقة مع الله، ولنربح مقام القرب منه، ولنحض بالمكانة والحظوة عنده، ولنعلم أن ما أبرمه الله..
فهيهات أن ينقضه أحد، وما صاغه الإيمان.. فهيهات أن يلغيه الشيطان..
ومن محطة الصوم.. وفي رحاب مدرسته: تكون البداية، ويكون المران، ويكون التدريب، وتكون المغالبة..
فهلموا بنا يا أحباب الله! لنغتنم فرصة بلوغنا شهر الصيام، فمن يدري من منا سيلقاه بعد عامه هذا...
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يردهم إلى دينهم رداً جميلاً، وأن ينفعنا برمضان، وأن يعيننا على طاعته وحسن عبادته، وأن يتقبل منا..
إنه قريب مجيب.


ads


شاهد ايضا ( فيديو مشابه )